رهو مؤرخ الأندلس الأول بلا منازع وأكثر المؤرخين العرب معرفة ودراية بهذه الفترة وشكلت اعماله مكتبة كاملة تحكي للاجيال تاريخ العرب في الاندلس.. انه محمد عبدالله عنان الذي أسري للقراء العرب خدمة جليلة لم يتم تجاوزها حتي الآن من جانب المؤرخين المحدثين وهي تسجيل وتوثيق تاريخ العرب بعد فتح الاندلس.
لم تستطع جماعة إسلامية أن تتنبأ بمصيرها سوي الأندلس، فهي قد شعرت به منذ أيام الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) واخذت تترقبه من حين إلي آخر في صبر وفزع، مستسلمة إلي قدرها، مجاهدة ما استطاعت في الدفاع عن نفسها، ملتجئة منذ أوائل القرن السابع الهجري، الي معاونة شقيقتها المسلمة عبر البحر - المغرب.
وهي لم تنس مطلقا، ان اخوانها، هؤلاء البواسل، فيما وراء البحر، قد أنقذوها من الفناء المحقق، وذلك حينما اشتدت وطأة الجيوش الاسبانية عقب سقوط طليطلة (٨٧٤ هـ - ٥٨٠١م) علي ملوك الطوائف، وشعروا بان الكارثة قد أضحت علي وشك الوقوع، واستنجدوا يومئذ باخوانهم فيما وراء البحر، بالمرابطين، سادة المغرب، واستجاب المرابطون الي غوث اخوانهم أهل الاندلس، وعبروا البحر إلي اسبانيا، والتقوا بالجيوش الاسبانية الي جانب الطوائف الضيئلة، في موقعة الزلاقة الكبري، واحرزوا فيها نصرهم الباهر بسحق الجيوش الاسبانية (٩٧٤ هـ ٦٨٠١م).
وأنقذت الأندلس بذلك من الفناء المحقق.. ثم استولي المرابطون علي الاندلس، وحكموها زهاء نصف قرن.. وخلفهم في حكمها الموحدون الذين خلفوهم في سيادة المغرب، وحكموها زهاء قرنا اخر. ثم جاشت الأندلس بالثورة ضد حكامها المغاربة، وأجتمعت فلول الثورة اخر الامر في الجنوب، حيث قامت مملكة غرناظة اخر الممالك الأندلسية، وقدر لها ان تعيش مائتين وخمسين عاما اخري.
بل لقد ورد هذا النذير بالخطر علي الاندلس، قبل سقوط طليطلة، في اقوال ابن حيان مؤرخ الأندلس الكبير في تعليقه علي موقعة بريشتر من أعمال الثغر الاعلي (ارجون) وسقوطها في يد الاسبان في سنة (٦٥٤ هـ - ٣٦٠١م) في وابل من القتل والسبيء وشنيع الاعتداء، حيث يقول: »وقد اشفينا بشرح هذه الحالة الفادحة مصائب جليلة، مؤذبة بوشك القلعة، طالما حذر اسلافنا لحاقها، بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره.
ولاشك عند ذوي الالباب ان ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أمرنا بالتواصل والالفة، فاصبحنا من استشعار ذلك والتجاري عليه، علي شفا جرف يؤدي الي الهلكة لا محالة«.
ولما سقطت طليطة، وارتجت الاندلس فرقا ورعبا، قال شاعرهم:
يا أهل أندلس شدوا رحالكم
فما المقام بها الا من الغلط
السلك ينثر من اطرافه وأري
سلك الجزيرة منشورا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقة.
كيف الحياة مع الحيات في سفط
مخاوف غرناطة
وبعد سقوط طليطلة، ونصر الزلاقة الساحق، احرز الموحدون بقيادة عاهلهم الخليفة يعقوب المنصور، نصرهم الحاسم علي اسبانيا النصرانية وذلك في موقعة الأرك المشهورة (٣٩٥ هـ - ٥٩٩١م) فكانت زلاقة اخري،
ولكن الاندلس ما لثبت ان لقيت هزيمتها الحاسمة بعد ذلك بقليل، علي يد اسبانيا النصرانية في موقعة العقاب المشئومة (٩٠٦ هـ - ٢٠٢١م) وكانت هزيمة العقاب ضربة شديدة لسلطان الموحدين ولاسبانيا المسلمة، فعاد شبح الفناء يلوح للاندلس قويا منذرا. وسري هذا التوجس الي كتاب العصر وشعرائه، وظهر واضحا في رسائلهم وقصائدهم، ومن ذلك ما قاله ابواسحق ابراهيم بن الدباغ الاشبيلي، معلقا علي موقعة العقاب.
وقائلة اراك تطيل تفكرا
كأنك قد وقفت لدي الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب
غدا سببا لمعركة العقاب
فما في ارض اندلس مقام
وقد وصل البلا من كل باب
هذا، وقد كانت مملكة غرناطة، اخر المملك الأندلسية، بالرغم من العمر الطويل الذي قدر لها، تستشعر الخطر الداهم دائما، وترقب نمو جارتها، المملكة النصرانية الاسبانية في جزع وخوف. اجل انها لقيت في اخوانها وراء البحر، وهم بنو مرين سادة المغرب، العون والانجاد باستمرار، وعقد التحالف المستمر بين المملكتين، وترك ملوك غرناطة لبني مرين ثلاث نواعد اندلسية، لتكون مراكز للدفاع وتدفق القوي المنجدة، هي جبل طارق، (جبل الفتح) ورندة والجزيرة الخضراء، وأبدي بنو مرين في هذا المهمة الدفاعية، اهتماما واخلاصا ومقدرة، واستعادو جبل طارق من يد الاسبان، وكانوا قد استولوا عليه حتي حين، غير ان مملكة بني مزين مالبثت منذ أواخر القرن الثامن الهجري، ان اصابها الضعف، وكثرت بها الانقلابات، ولم يبق في وسعها ان تهرع الي انجاد شقيقتها فيما وراء البحر.
وشعرت مملكة غرناطة، انه لم يبق في وسعها ان تعتمد علي هذا الجانب الذي كان ينجدها، وأيفنت أنها لا يد أن تعتمد علي نفسها في الدفاع عن مصيرها ان كان ثمة دفاع يجدي.
ومنذ اواسط القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) نري حساسية الشعور بخطر المصير، تشتد لدي غرناظة وتصدر النبوءات بالخطر من اكابر رجاها، فنري الوزير لسان الدين ابن الخطيب مثلا يقول علي لسان مليكة السلطان يوسف ابي الحجاج في رسالة كتبها الي السلطان ابي سالم المريني ملك المغرب بانه »اذا انحلت عروة تأميلكم عن هذا الوطن (اي الاندلس) استولت عليه يد عدوه«.. ونري نفس الوزير ابن الخطيب يكتب في وصيته لاولاده ما يأتي، وقد كتبها حوالي سنة (٠٧٧هـ - ٨٦٣١م) »ومن رزق « ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعيا لنفسه ان تغلب العدو علي بلده في الافتضاح والافتقار، ومعوقا عن الانتقال امام النوب الثقال، واذا كان رزق العبد علي المولي، فالاجمال في الطلب أولي«.
وقد كان ذلك قبل سقوط غرناطة بنحو مائة وعشرين عاما.
اعتذار للرسول
وكان من دلائل الشعور بهذا الخطر الداهم علي مصاير الاندلس، ان ملوك غرناطة لم يقم احد منهم بالسفر الي المشرق لقضاء فريضة الحج، لانهم كانوا يخشون ان يقع المكروه في غيابهم الطويل عن المملكة، وان ينتهز الاسبان الفرصة للقيام بالهجوم علي غرناطة والاستيلاء عليها. ومن ثم فقد ابتدعوا فكرة الاستنابة بتوجيه الرسائل الملوكية الي الضريح النبوي الشريف.. وقد كتب الوزير ابن الخطيب الي التربية النبوية من ذلك رسالتين.. الأولي عن السلطان يوسف أبي الحجاج الذي حكم الاندلس من سنة ٣٣٧ الي سنة ٣٥٧ ه١ والثانية عن ولده السلطان محمد الغني بالله الذي حكم من سنة ٣٥٧ الي سنة ٣٩٧هـ، ومع كل رسالة قصيدة مديح نبوي.. والرسالتان آيتان في البلاغة، ورقة التوسل النبوي، الذي يذيب دموع العين تأثرا وخشوعا.